فصل: تفسير الآية رقم (12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (8):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [8].
{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي: يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ} أي: قرابة ويميناً {وَلاَ ذِمَّةً} أي: عهداً.
وهذه الجملة مردودة على الآية الأولى، أي: كيف يكون لهم عهد، وحالهم ما ذكر؟ وفيه تحريض للمؤمنين على التبرء منهم، لأن من كان أسير الفرصة، مترقياً لها، لا يرجى منه دوام العهد.
قال الناصر: ولما طال الكلام باستثناء الباقين على العهد، أعيدت كيف تطرية للذكر، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض. انتهى.
ثم استأنف تعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد بقوله: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} أي: ما تتفوه به أفواههم {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} أي: متمردون، لا عقيدة تزعمهم، ولا مروءة تردعهم.
وتخصيص الأكثر، لما في بعض الكفرة من التفادي عن العذر، والتعفف عما يجرّ إلى أحدوثة السوء.

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [9].
{اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ} أي: استبدلوا بها {ثَمَناً قَلِيلاً} أي: من متاع الدنيا، يعني أهويتهم الفاسدة {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} أي: فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

.تفسير الآية رقم (10):

القول في تأويل قوله تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [10].
{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} أي: المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ.

.تفسير الآية رقم (11):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [11].
{فَإِن تَابُواْ} أي: مما هم عليه من الكفر {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي: فهم إخوانكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، فعاملوهم معاملة الإخوان، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم ما لا مزيد عليه.
وقوله: {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} جملة معترضة للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها.

.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [12].
{وَإِن نَّكَثُواْ} أي: نقضوا {أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي: فقاتلوهم.
وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم، للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رياسة وتقدم في الكفر، أحقاء بالقتل والقتال.
وقيل: المراد بالأئمة رؤساؤهم وصناديدهم، وتخصيصهم بالذكر إما لأهمية قتلهم، أو للمنع من مراقبتهم، ولكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم، فإن قتلهم غالباً يكون بعد قتل من دونهم. أفاده أبو السعود.
{إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} جمع يمين أي: لا عهود لهم على الحقيقة، حيث لا يراعونها ولا يعدّون نقضها محذوراً، فهم وإن تفوهوا بها، لا عبرة بها.
وقرئ {لا إيمان} بكسر الهمزة، أي: لا إسلام، ولا تصديق لهم، حتى يرتدعوا عن النقض والطعن {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} أي: عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: استدل بهذه الآية من قال إن الذّمّي يقتل إذا طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بسوء، سواء شرط انتفاض العهد به أم لا، واستدل من قال بقبول توبتهم بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}. انتهى.
ثم حض على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (13):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} [13].
{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} أي: التي حلفوها في المعاهدة {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة، حسبما ذكر في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فيكون نعياً عليهم جنايتهم القديمة، {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: بالقتال يوم بدر، حين خرجوا لنصر غيرهم فما نجت وعلموا بذلك، استمروا على وجوههم طلباً للقتال، بغياً وتكبراً.
وقيل: بنقضهم العهد، وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة، أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وكان ما كان. قاله ابن كثير.
وقال الزمخشري: أي: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير، وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة، لعجزهم عنها، إلى القتال، فهم البادئون بالقتال، والبادئ أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم.
{أَتَخْشَوْنَهُمْ} أي: أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم {فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} بمخالفة أمره وترك قتالهم {إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه، كقوله تعالى: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّه}. قاله الزمخشري. وفيه من التشديد ما لا يخفى.
ثم عزم تعالى على المؤمنين الأمر بالقتال لحكمته بقوله:

.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [14].
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ} أي: بآلام الجراحات والموت {بِأَيْدِيكُمْ} أي: تغليباً لكم عليهم {وَيُخْزِهِمْ} أي: بالأسر والإسترقاق، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي والمعنوي، {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} أي: ممن لم يشهد القتال.

.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [15].
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} أي: بما كابدوا من المكاره والمكايد {وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء} أي: فيحصل لك أجرهم {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: في أفعاله وأوامره.
وقد أنجز الله سبحانه لهم هذه المواعيد كلها، فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة، دالة على صدقه وصحة نبوته.

.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [16].
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} أي: على ما أنتم عليه، ولا تؤمروا بالجهاد {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي: بطانه يفشون إليهم أسرارهم.
والواو في ولما حالية، ولما للنفي مع التوقع، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني، إذ لو شم رائحة الوجود، لعلم قطعاً، فلما يعلم لزم عدمه قطعاً {وَلَمْ يَتَّخِذُوا} عطف على: {جاهدوا} داخل في حيز الصلة، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، والحال أنه لم يتبين الخّلص من المجاهدين منك من غيرهم، بل لابد أن تختبروا، حتى يظهر المخلصون منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله، لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة، أي: بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم. ودلت لما على أن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين، وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين، حيث لم يتعرض للمقصرين، وذلك لأنه بمعزل من الإندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين، وهذا كما قال:
وما أدري إذا يمَّمتُ أرضاً ** أرِيدُ الخيرُ أيُّهما يَلنِي

وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: {آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة} الآية، وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْه} الآية، وكلها تفيد أن مشروعية الجهاد اختبار المطيع من غيره.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [17].
قال في البصائر: يعمر إما من العمارة التي هي حفظ البناء، أو من العمرة التي هي الزيارة، أو من قولهم: عمرت بمكان كذا أي: أقمت به. انتهى.
{شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أي: بحالهم وقالهم، وهو حال من الضمير في {يَعْمُرُواْ}.
{أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} وهذا كقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} ولهذا قال تعالى:

.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [18].
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ} أي: لم يعبد إلا الله {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي: إلى الجنة.
وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات السنية، في معرض التوقع، لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الإهتداء، والإنتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محسنون، ولتوبيخهم بقطعهم أنهم مهتدون، فإن المؤمنين، ما بهم من هذه الكمالات، إذا كان أمرهم دائراً بين لعل وعسى، فما بال الكفرة وهم هم، وأعمالهم أعمالهم!! وفيه لطف للمؤمنين، وترغيب لهم في ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، ورفض الإغترار بالله تعالى. كذا حرره أبو السعود.
وقال الناصر: وأكثرهم يقول: إن عسى من الله واجبة، بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين.
والحق أن الخطاب مصروف إليهم، كما قال الزمخشري، أي: فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوّة العاقبة عند الله معلومة، ولله عاقبة الأمور.
تنبيهات:
الأول: قال الزمخشري: العمارة تتناول زمّ ما استرمّ منها وقمّها، وتظيفها وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذِّكر، ومن الذكر درس العلم، بل هو أجلّه وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا، فضلاً عن فضول الحديث.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد أو راح، أعدّ الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح».
ورويا أيضاً عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله تعالى، بنى الله له بيتاً في الجنة».
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان»، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ} الآية.
الثاني: إنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لدخوله في الإيمان بالله، فتُرك للمبالغة في ذكر الإيمان بالرسالة، دلالة على أنهما كشيء واحد، إذا ذكر أحدهما فهم الآخر، على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى الإيمان بكل ما يجب الإيمان به، ومن جملته رسالة صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر}. كذا في العناية.
الثالث: في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر، تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما.
الرابع: دلت الآيتان على أن عمل الكفار محبط لا ثواب فيه.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (19):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [19].
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
روى العوفي في تفسيره عن ابن عباس أن المشركين قالوا: عُمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وكانوا يفخرون بالحرم، ويستكبرون به، من أجل أنهم أهله وعماره، فخير اللهُ الإيمانَ والجهاد مع رسوله، على عُمارة المشركين البيت، قيامهم على السقاية، وبيّن أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك، وأنهم ظالمون بشركهم، لا تغني عمارتهم شيئاً.
قال اللغويون: السقاية بالكسر والضم موضع السقي. وفي التهذيب: هو الموضع المتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها. انتهى.
وفي التاج: سقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس رضي الله عنه في الجاهلية والإسلام. انتهى.
وروى الإمام مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآية.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه ولفظه: إن رجلاً قال: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. الحديث.
قال بعضهم: فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد ونظائرهما، ونزلت الآية في ذلك، مع أن الرواية السالفة عن ابن عباس تنافيه، وكذا تخصيص ذكر الإيمان بجانب المشبه به، وكذا وصفهم بالظلم لأجل تسويتهم المذكورة.
وأقول: لا منافاة، وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه، وقول النعمان فأنزل الله، بمعنى أن مثل هذا التحاور نزل فيه فيصل متقدم، وهو هذه الآية، لا بمعنى أنه كان سبباً لنزولها كما بينها غير ما مرة.
وهذا الاستعمال شائع بين السلف، ومن لم يتفطن له تتناقض عنده الروايات، ويحار في المخرج، فافهم ذلك وتفطن له.
وتأييد أبي السعود نزولها في المسلمين بما أطال فيه، ذهول عن سباق الآية وعن سياقها، فيما صدعت فيه من شديد التهويل، وعن لاحقها في درجات التفضيل، وقصر الفوز والرحمة والرضوان على المشتبه به.
لطيفة:
لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلابد من تقدير مضاف في أحد الجانبين، أي: أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله... إلخ، ويؤيده قراءة من قرأ {سقاة الحاج وعَمَرة المسجد الحرام} أو: أجعلتموها كإيمان من آمن.. الخ.
قال أبو البقاء: الجمهور على سقاية بالياء، وصحّت الياء لما كانت بعدها تاء التأنيث.
ثم بيّن تعالى مراتب فضل المؤمنين، إثر بيان عدم الإستواء وضلال المشركين وظلمهم، بقوله سبحانه: